التلفزيون الفلسطيني
|
|
| طعم الموت | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
زائر زائر
| موضوع: طعم الموت الخميس سبتمبر 13, 2007 7:43 am | |
| عقارب الساعة تكاد تتجاوز الثانية ظهراً . . يلملم ( عبد السلام ) حاجياته مسرعاً ؛ فلم يتبق على بدء حظر التجوال سوى ساعتين . . يجب أن يخرج من المكتب قبل أن تزدحم الشوارع بالعائدين إلى بيوتهم ؛ فمازال أمامه المرور على طفليه لإحضارهما من المدرسة ، ثم شراء مستلزمات البيت حتى الغد ، ثم السير لأكثر من عشرين دقيقة فالباص لا يمر إلا بالشوارع الرئيسة . . إنها معاناة كل يوم .
يخرج ( عبد السلام ) من المكتب متعجلا ؛ يتجاهل حتى رد السلام ؛ فربما يجره رد السلام إلى ثرثرةٍ لا طائل منها سوى التأخير و إضاعة الوقت .
- الحمد لله لم يتأخر الباص ؛ سأصل إلى المدرسة قبل خروج الأطفال . - ما شاء الله . . مقعدان خاليان بالباص . . أعتقد أن الجلوس بجوار هذا الصبي الصغير سيكون أفضل من الجلوس بجوار السيدة .
تفحص ( عبد السلام ) الصبي سريعاً . . فلم ير إلا جسده النحيل ؛ إنه لا يتجاوز الخامسة عشرة ؛ ولكن لماذا يدور ببصره من خلال النافذة و كأنه يبحث عن شيء ما ؟ إنه حتى لا يشعر بوجودي . . بماذا يتمتم ؟ . . لعله يهمس لنفسه بكلمات إحدى تلك الأغنيات الغريبة التي يسمعها الصبية هذه الأيام . . أفضل شيء أن أحاول الاسترخاء قليلاً ، فمازال الطريق طويلاً ، وأنا أشعر اليوم بأنني منهكٌ تماماً .
التفت الصبي إليه فجأة ، وكأنه يتساءل : منذ متى وأنت هنا . . بادله ( عبد السلام ) بنظرة ترحاب ؛ تجاهلها الصبي ؛ ليعود إلى النافذة - من الواضح أن هذا الصبي غريب الأطوار . . ربما يمر بأزمة عاطفية ؛ أو ربما هي أعراض الحب الأول . . و قبل أن يهمّ ( عبد السلام ) بالضحك في أعماقه . . التفت إليه الصبي فجأة . . - هل ذقت طعم الموت يا سيدي ؟ - ماذا ؟ . . طعم ماذا ؟ . . قالها ( عبد السلام ) متعجباً فزعاً من هذا السؤال المفاجئ - الموت يا سيدي . . شعر ( عبد السلام ) بأن كلمة ( غريب الأطوار ) كانت مجحفة لشخصية هذا الصبي . . و لكن لا بأس ؛ فالحوار يقتل دقائق الانتظار للوصول إلى المدرسة . . - و ماذا يعرف صبيٌ في مثل عمرك عن الموت ؟ - ليس أكثر مما تعرفه أنت يا سيدي . . و ليس أقل فماذا تعرف أنت عن الموت ؟ - الموت يا بني . . الموت هو الموت - هل رأيت يا سيدي ؟ نحن لا نعرف شيئاً عن الموت ، فمن منا يستطيع أن يصف ملامح الموت ؟ وكذلك الموت . . لا يعرفنا . . فهو لا يميز صغيرنا من كبيرنا ، ولا ضعيفنا من قويّنا ، ولا فقيرنا من غنيّنا . يا سيدي نحن و الموت كمسافرين في قطارين متعاكسين . . لا نلتقي إلا للحظاتٍ معدودة ؛ لا تكفي للتعارف. - صدقت يا بني ، ولكن من في مثل عمرك لا يتحدث عن الموت - ولماذا يا سيدي ؟ الموت سلعة بائرة لا يشتريها الكبار عندما يجب عليهم ذلك . . لذا يجدها الصغار في الأسواق بأرخص الأثمان . - ربما ! ! قالها مفضلاً قطع هذا الحوار السخيف ، و متعجباً من هذه الفلسفة الغريبة التي ورطته الصدفة في الإنصات إليها.
أعاد الصبي النظر من النافذة ، ثم ما لبث أن التفت ثانيةً إلى ( عبد السلام ) . . - لم تجبني يا سيدي ؟ - بماذا يا بني ؟ - هل ذقت طعم الموت ؟ - يا بني : الموتى فقط هم من يذوقون طعم الموت ، أما الأحياء فلا . - يا سيدي : الموتى لا يتذوقون . . إنهم موتى ؛ ألا تفهم ؟ إنهم موتى . . - يا بني : إذا كان الموتى لا يذوقوا طعم الموت ، فكيف تدّعي أن الأحياء يذوقونه ؟ - لأن الأحياء هم من أنعم الله عليهم بالإدراك . . لذلك فهم يتذوقون - و لكن . . ألم تقل يا بني أننا لا نعرف شيئاً عن الموت ؟ - صحيح يا سيدي . . و لكننا نستطيع أن نشم رائحته ؛ أن نذق طعمه - كيف ؛ و نحن لا نعرفه ؟ - يا سيدي : عندما تخرج من بيتك كل صباحٍ تتلمّس الموت . . تذوق طعمه عندما تجوب الشوارع و الطرقات تفتش عن الموت . . تذوق طعمه عندما تطارده بجسدك الضعيف غير مبالٍ . . تذوق طعمه عندما تشعر به يفر من أمامك مذعوراً . . تذوق طعمه عندما تجده أجبن من أن يحصدك . . تذوق طعمه عندما تعود إلى دارك آخر النهار مهموماً لأنك لم تمسك بالموت . . تذوق طعمه
يا سيدي . . عندما تخرج لسانك للموت . . تذوق طعم الموت
- نظر ( عبد السلام ) إلى الصبي مرتاباًً و قد سرت بأطرافه قشعريرة باردة . . ربما يكون به مس !! نفض الفكرة عن ذهنه سريعاً . . ربما الحديث عن الموت هو ما يفزعه ، ولم لا ؟ فالنفس البشرية تجزع من الموت . . و لكن ما بال هذا الصبي يتحدث عن الموت و كأنه صديقٌ حميم يعرفه جيداً ؟ هل يكون روحاً ؟!! ما هذا يا عبد السلام ؟ هل تفقدك عباراتٍ بلهاء يهذي بها صبيٌ مخبولٌ صوابك .
تمنى ( عبد السلام ) لو يعاود الصبي حديثه ، فربما قطعت الكلمات هذا السيل من الأفكار البلهاء التي تحاصره . . و كأن الصبي يتعمد أن يدعه لأفكاره تعبث به . . مكتفياً بالنظر من خلال نافذته . حاول ( عبد السلام ) مجاذبة الصبي أطراف الحديث مرة أخرى - إلى أين أنت ذاهبٌ يا بني ؟ - إلى داري - هل كنت في المدرسة ؟ - لا - هل تعمل ؟ - نظر إليه الصبي نظرات استهزاء ٍ . . أبي لا يجد عملاً . . و كذلك أخي الأكبر - إذن من أين قدمت ؟ - من بيتي - ألم تقل منذ لحظات أنك في طريقك إلى بيتك ؟ - لا يا سيدي . . و إنما قلت أنا في طريقي إلى داري - تراقصت الحيرة في عينيّ ( عبد السلام ) مغلفةً كلماته : قادمٌ من بيتك . . و في طريقك إلى دارك ؟ - نعم يا سيدي . . قادمٌ من بيتي و في طريقي إلى داري . . ما الغريب في هذا ؟ - لا شيء يا بني . . لا شيء
شعر عبد السلام بالرغبة في النهوض سريعاً . . بالتأكيد هذا الصبي ليس طبيعياً . . تمنى لو يسرع هذا الباص قليلاً لينهي هذا العبث . . تمنى لو لم يستقل هذا الباص ؛ لم يره . . أحس بالندم لأنه لم يرد السلام على زميله أثناء خروجه . . ربما شغلهما الحديث حينها فيعمى عن رؤية هذا الباص اللعين .
- و كأنما أدرك الصبي أنه قد نال من ( عبد السلام ) . . فتحركت ملامحه الجامدة ليمتلئ وجهه لأول مرة بابتسامة مودة : هل لديك أطفال يا سيدي ؟ - نعم ؛ لدي ( نضال ) عمره ثماني سنوات ، و ( جهاد ) عمرها ست سنوات ، و ( صلاح الدين ) عمره ثلاث سنوات . - قَرَّ الله يهم عينك - و أدامك الله لأهلك سالماً يا بني - عندما يكبر أطفالك يا سيدي ؛ عندما ينضجون ؛ عندما يفهمون ؛ عندما يسألونك عن الموت . . قل لهم يا سيدي . . ما أحلى طعم الموت
- لم يمهلني الوقت للتفكير في معنى كلماته ، فقد صرخ فجأة مستوقفاً السائق ، ونهض مهرولاً إلى الباب الأمامي حتى كاد أن يزيحني من مقعدي . .
وقبل أن يهبط من الباص . . توقف فجأة وكأنه نسي شيئاً هاماً ، نظر إلى السيدة التي بجواري ؛ عانقها بعينيه ؛ قبّل يديها و سألها الدعاء . . أطالت النظر إليه و كأنها تحفر ملامحه في ذاكرتها ؛ احتضنته بعينيها ؛ خبأته في صدرها ؛ طبعت على خديه قبلة عميقة . . رسم على شفتيه ابتسامة راضية و هبط من الباص مسرعاً . . أخذ يعدو في الطريق كالصاروخ المنطلق يخترق الزحام . . لا أدري لماذا أو إلى أين ؟
إنه فعلاً صبيٌ غريب . . حتى أفكاره و كلماته غريبة مثله . انطلق الباص . . نظرت إلى السيدة أفتش في ملامحها عن سر هذا الصبي . . لقد تصلبت ملامحها حتى بدت كالموتى . .
لم تمر سوى لحظات . . حتى دوى صوت انفجارٍ هائل . . توقف الباص فجأة ، نهض كل من بداخله يتطلعون إلى الخلف . . لقد كانت سيارة عسكرية تحترق ككومة من القش . . قطع صمت الجميع زغرودة طويلة أطلقتها تلك السيدة . .
لقد كانت أمه. . أبت إلا أن تصحبه إلى حفل عرسه . _________________ |
| | | زائر زائر
| موضوع: رد: طعم الموت الخميس سبتمبر 13, 2007 4:33 pm | |
| قصة فيها الكثير من المعاني مشكورة على هذا المجهود العملاق بارك الله فيكي و جزاكي الله كل الخير تحيتي |
| | | زائر زائر
| موضوع: رد: طعم الموت الخميس سبتمبر 13, 2007 4:52 pm | |
| |
| | | زائر زائر
| | | | زائر زائر
| | | | | طعم الموت | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
مواضيع مماثلة | |
| |
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |
|