ثمة مشكلة في عالم القصة القصيرة كما اعتقد هي ان كثيرا من الناس لايدركون العلاقة بين الفكرة والقصة. الفكرة هي اي شيء يحرك خيال الكاتب نحو الشروع في الكتابة مع عزم كاف علي البدء في عملية الأبداع القصصي. انها اي شيء يتم الأمساك به ويسيطر علي ذهنك ويدفعك الي التفكير مرددا مع نفسك
هذه هي فكرة القصة... شيء واحد يمثل هذا المفهوم ويدفع نحوه هو ان الكتاب يتوقعون ان افكارهم الداخلية كبيرة واكبر مما نتصور فهي قادرة علي اعطاء اجابانت اكثر مماهي عليه في الواقع، انهم مقتنعون بالمثل القائل:
(ان الفكرة بالنسبة للكاتب هي مثل البذرة بالنسبة للبستاني)
بمعني آخر، انهم يعتقدون بأنه ما ان يجد الكاتب فكرة ما فان القصة تبدأ في الظهور تلقائيا. ان مثال البستاني آنف الذكر يبن لنا ان الفكرة تشبه البذرة التي تحمل صفات وراثية للنبات الذي سينمو مكونا سدرة عالية في المستقبل. اذن.. ضع الفكرة في التربة، اسكب عليها الماء، فستنبت القصة وتثمر...! ربما كان هذا القول غير متوافق تماما، لكن لننظر الي هذا المثال الآخر : (ان الفكرة بالنسبة للكاتب هي كالدقيق بالنسبة للخباز). انطلاقا من هذا المثل نقول ان الفكرة بالنسبة للقصة هي في حقيقتها اكثر شبها بالدقيق الذي يصنع منه الخبز، انها (المقوم الأول) والأكثر اهمية، لكنك تحتاج لأن تختار مقومات اخري وتمزجها معا قبل ان تجري عليها تعديلات كي يكون العمل جاهزا. القصة ما هي الا حشد لعدة افكار كبيرة وصغيرة، وكل فكرة تساهم في الوصول للنتيجة النهائية. وكما هو الحال بالنسبة للخباز، فأنك عندما تكتب القصة تكون كمن يقوم بانجاز تفاعلات كيمياوية.. والمنتوج النهائي هو شيء ما اكثر من مجموعة مقومات فحسب بل هو سبيكة متماسكة. لنتيجة ستصبح شيئا آخر مختلفا تقريبا بالنسبة للمقومات، وهي لايمكن بعدهذا ان تنفصل او تؤدي كلا منها وظيفة مستقلة. ان الاحساس الفطري يمكن ان يقودك الي اي عدد من القصص، وما تضيفه الي فكرة الدقيق يحدد في ما اذا كنت ستنتهي من صنع قالب قصصي كما يصنع الآخر قالب حلوي لذيذا.
ان فكرة (الدقيق) لاتخلو من طرافة، اما بالنسبة لقصتك فيمكن ان تقابل اشياء عدة: شخصية ما، حالة ما، او حادثة، مكان ما، فكرة تريد استكشافها وعندما تكون مخططا فأن افكار القصص ستقفز الي ذهنك، انها هدايا صغيرة من وعيك الباطن وكلنا نمتلك واقعيا مثل ذلك. وعادة ماتأتي هذه الأفكار عندما نفكر في شيء ما في وعينا او حتي ان كنا لانفكر في اي شيء محدد علي الأطلاق. اعتقد ان الأفكار مثل الطبيعة والماء، تطفو في ذاكرتك و ذاكرتي عندما او امشي او اعوم او اجلس في مطعم او مقهي او مكتبة، انها لعبة صغيرة في اللاوعي تمارس غوايتها وفعلها معي، تمنحني افكارا واحيانا لايكون عندي ورق ولا قلم كي ادونها فورا، ان فكرة (الدقيق) بالنسبة لقصتي القصيرة هي (هوية الأزمة)، انها نوع من الومضة الذهنية،خط واحد حواري، في حاسة سمعي (العقلية) فأنا قد اسمع امرأة شابة تسأل اخري : الا ابدو لك مثل مومياء؟ كل مااقوم به عندها هو ان اعرف من هي تلك المرأة، وماهو الدافع لسؤالها ؟, وماذا سيكون الجواب وماهو رد الفعل عن السؤال ؟. في ليلة ما اتجهت الكاتبة (كرس روجرز) الي النوم، عندما دهمها مايشبه الحلم، صورة ما سيطرت عليها، نمر مشع غريب في سيارة عتيقة، ماالذي فعلته الكاتبة؟ لقد طرحت اسئلة عدة علي نفسها : كيف، من اين، لماذا.متي .ثم بدأت عملية الأبداع القصصي وحلقت بعيدا في الغرائبية والخيال العلمي. لكن ليس عليك ان تنتظر متي يشتغل عقلك الباطن لكي تبدع. البحث الجاد والمثابر عن الأفكار هو الأساس، وفي واقع الأمر ان حياتنا اليومية تكتظ بالأفكار، يمكنك ان تجد تلك الأفكار بين الناس الذين تقابلهم في الأناكن التي تذهب اليها، الأحداث التي تقع او التي تشهدها، من قراءاتك، القصة يمكن ان (تقدح) من مناقشة، من استرجاع امر ما من الذاكرة، من جلسة وحوار في مقهي، من مقال مشوق يجعلك تتساءل (لماذا يتصرف الناس بهذه الطريقة)؟ ليس كلنا كتاب، ولكن اغلبنا رواة قصص، نحن متعلقون بالقصص: المواقف المضحكة التي تقع لنا في العمل او الدراسة، عندما نذهب في نزهة ولا نضبط طريق العودة، كلها مواقف واحداث جديرة بالانتباه. اصغ الي الأحداث التي سمعتها بنفسك وصفها تباعا، القصص تصبح جزءا من التاريخ الشخصي لكثرة تكرارها، لدرجة تجعل بعض اصدقائك يرددون متذمرين : (اوه.. كلا ليس من المعقول ان تعيد علينا القصة نفسها في كل مرة). ان كانت تلك القصة تجتذبك كثيرا لدرجة تجعلك ترددها لكل مستمع جديد اذن هي مشروع قصة قصيرة قد تكون ناجحة. حقيقة ان فكرة واحدة نادرا ماتكون كافية، افترض انك جئت بفكرة رائعة وتصلح ان تبني عليها قصة جيدة، قصة تسيطر علي تفكيرك وتدفعك بألحاح لكتابتها. ولكن كل ماتحمله في الحقيقة ماهو الا اجزاء من القصة، صورة لامرأة تركب القطار، شخص ما يلوح مودعا، استذكار منزل قديم، نوافذ واشجار.. الدقيق تحت اليد، في وعائه بانتظار قرارك للبدء بالخطوة التالية!.
عندما تحدد ماذا ستضيف الي الدقيق، عندها تبدأ القصة بامتلاك اسباب الحياة. القصة ستتطور من الاحتكاك والتلاقح الذي يقع عندما تلتحم فكرتان.عندما تحدد ماذا تريد ان تضيفه الي الدقيق تلك هي بداية القصة. تقول الكاتبة (كارين غروشمان) مسترجعة كيف كتبت احدي قصصها، تقول (ان الفكرة الرئيسية جاءتها وهي في مكتبة ملحقة بمتحف مدينتها، فقد قرأت حول فيضان اصاب احدي الولايات وكان من حصيلته ان 90% من الضحايا كانوا رجالا بينما 10%كانوا اطفالا ونساء، وهنا تساءلت الكاتبة : تري كيف كان شكل الحياة من وجهة نظر طفلة من بين اولئك الأطفال، وعادت بذاكرتها الشخصية الي الوراء وادمجتها بتلك الطفلة المرتعبة، هنا شعرت ان بين يديها مجموعة عناصر يمكن الاشتغال عليها والانطلاق منها في كتابة النص، مسألة منظور الطفل في لحظة حاسمة من الحياة، ممتزجة بتجربتها الشخصية ومشاعرها كفتاة في الثانية عشرة من اسرة تربط افرادها صلة حميمية، عندما تجمعت كل تلك الأفكار كانت الشخصية القصصية للكاتبة لوسي قد ولدت. اما الكاتبة (مارغريت اتوود) فقد علقت في مقابلة اذاعية بأنها مهتمة كثيرا بالقصص التي تبدأ بالأسئلة. ومرة سألت نفسها (ماذا لو توليت منصب الحاكم، ماذا سأفعل وكيف اتصرف؟) وسؤال آخر : ماذا لو وجدت طفلا ضائعا واصر علي انني انا امه ؟ اسئلة اخري لاحصر لها يمكن ان تحرك الخيال القصصي.
يدرب كتاب القصة انفسهم عن طريق (التفكير القصصي) بالنظر للناس، الأماكن، الأحداث، من خلال ما تنطوي عليه من قيمة درامية.. ان وعيك يعطيك دون شك القدرة علي الأجابة: من اين ابدأ؟ وعندما يسيطر علي ذهنك هاجس مفاده (اجل.. ان هذا شيء ملفت للنظر ) او (انني اتساءل ماسر هذا؟) فأن هذه اشارة تفيد بأن فكرة القصة موجودة وبانتظارك لكي تكتشفها..
الخطوة التالية هي في التفكير(ماذا لو)؟ وهذه الطريقة تستخدم لأكتشاف امكانات القص من حولك. افترض انك كنت تحتسي قهوتك في المقهي وتنبهت الي وجود شخص غريب يجلس في جهة مقابلة لك عند طاولة قرب النافذة وبين الفينة والأخري ينظر الي ساعته، تري ماذا يجري هناك؟ ومن يكون ذلك الشخص الذي ينتظره ذلك الرجل؟ وهل ترك الرجل عمله معرضا نفسه لتعنيف مديره من اجل هذا اللقاء المهم المجهول؟ هل تراه يخفي سرا شخصيا او عائليا؟ وماذا لو لم يأت هذا الشخص؟ وفي سيناريو آخر: ماذا لو كان هذا الرجل ينتظر رجل شرطة ليخبره باختلاسات واخطاء قانونية تجري في شركته؟وان الحقيبة التي بجواره محشوة بالبيانات التي تكشف عن تلك الحقائق؟ بامكانك ان (تلعب) لعبة: ماذا لو... في اي مكان، في العمل، في البيت، وانت في المطار تنظر الي العديد من الناس ومنهم هذين الشخصين المجاورين لك.. لماذا يقومان بهذه الرحلة؟ ماذا ينتظرهما في المحطة الأخيرة؟ ماذا سيحصل لو تأخرت تلك الرحلة او الغيت؟ وانت تقف ضمن صف من الناس في متجر كبير انظر من حولك.. ستجد ان كل شخصية يمكن ان تكون مادة لطريقة (ماذا لو؟): ماذا لو ان هذا الرجل عاد للمنزل ولم يجد زوجته واطفاله ووجد ملاحظة ما علي النافذة؟ ماذا لو ان هذا الرجل خرج ولم يجد سيارته .؟ ماذا لو انه خرج واكتشف ان محفظة نقوده غير موجودة؟ وبعد هذا سنلفت نظرك الي سلسة من الأفكار القصصية التي لاتنتهي والتي تصلك كل يوم الي عتبة بابك؟ انها الصحيفة اليومية. اختر مقالا لفت نظرك وحاول تطبيق طريقة (ماذا...لو؟) عليه، والمسألة هي ليست في كتابة قصة من الواقعة الحقيقية او ان تتجه الي الناس الحقيقيين الذين ينتقلون الي عالم خيالي. مايجب ان تفعله هو ان تعزل الشكل الواقعي الموجود في المقال وان تحاول صنع قصة اخري مما قرأت، قد تبدأ من العنوان الرئيسي وحده..
افترض علي سبيل المثال ان العنوان يقول: القت السلطات القبض عليه بسبب حادث سرقة.. احذف شكل المقال.. واطلق العنان لخيالك: من هو هذا الشخص؟ مالذي دفعه الي السرقة؟ ماذا لو ان التهمة باطلة ولم يثبت انه هو السارق؟ ماذا لو كانت تلك مجرد وشاية بحق ذلك الرجل؟
ولكي تجعل خيالك اكثر جدوي حاول ان تصنع اكثر من سيناريو واحد لكل شخص ومكان وحالة وجميعها في اطار طريقة (ماذا لو)؟
اذن، اصبحت تمتلك فكرة القصة، فلنقم الآن بزيارة اخري للقاموس لتحديد وتوسيع مفهوم كلمة (التصميم)، وسنصل من هذه المراجعة الي محصلة مفادها ان القصة القصيرة في ضوء عملية التصميم ماهي الا سرد قصير يقوم المؤلف خلالها بمزج عناصر: الشخصية، الصراع، الحبكة، البناء بطريقة فنية من اجل اهداف ثلاثة هي: ان يمتعنا ثم يؤثر فينا واخيرا يخبرنا . ان العناصر الأربعة التي تبتدئ بالشخصية وتنتهي بالبناء، بالاضافة الي الطريقة الفنية التي يقوم المؤلف بتقديمها، هي المقومات الضرورية لأية قصة، فهي السكر والبيض والكريما والدقيق التي تمزج مع بعضها وتجعل من فكرة القصة القصيرة قطعة خبز او حلوي لذيذة. وبعد ان بدأنا بالأقتراب من المقومات الأساسية للقصة، فأننا سنعمق ذلك في الفصول القادمة وسوف نلقي نظرة متفحصة علي المكونات الخمسة الأساسية: الشخصيات، الصراع، الحبكة، البناء واخيرا السرد . فهذه العناصر هي اساس الصنعة والمهارة في كتابة القصة القصيرة وسوف ندرس مساهمة كل من هذه المكونات في بناء القصة وكيف تتفاعل مع بعضها وتسهم في تطور البناء القصصي. والآن سنتفحص كلا منها بشكل اولي:
ليس مهما كم تلح عليك الفكرة التي اتقدت في ذهنك، واقعيا نقول ان تلك الفكرة واية فكرة لن تصبح حقيقة حية قبل ان تستحضر عنصر التخيل وتجعله تحت تصرف شخصياتك، وعبر افعالهم واستجاباتهم، سوف يصنعون هم انفسهم القصة . ومن اجل قصة مقنعة بحق، قم باختيار شخصياتك من مركز للتمثل، اي تمثل الحياة بل ومن الحياة الحية المليئة بالشخصيات، اجعلهم من القوة والصلابة ومن الواقعية مثلك تماما ومثل قرائك ايضا .
نستطيع ان نصف الصراع بأنه الدم الضروري للحياة في جسد القصة، لذا يجب المضي نحو الصراع ومنحه طاقة كافية . فالصراع الذي تختاره هو الكفيل بتحريك الأحداث في القصة وكذلك اتاحة الفرصة للشخصيات كي تؤدي افعالا وتتحسس هي فكرة الصراع فدع شخصياتك تقدم نفسها، دوافعها، ضعفها وقوتها. وسنناقش فيما بعد كيف يقود الصراع القصة ويصنع التشويق الذي يجعل القراء منشدين للقصة وحتي آخر سطر فيها.
البناء في القصة يشبه بشكل ما تصميم مبني، انه بمعني آحر يشبه الهيكل العظمي للجسم الانساني . فبناء القصة عمل منظم يعطي شكلا ووظيفة للأجزاء الأخري . وماان تعرف من هي شخصياتك وماهو نوع الصراع الذي تواجهه وتعيشه يمكنك استكشاف مامطلوب منك لتنظيم وترتيب وتقديم احداث القصة من البداية الي الوسط والي النهاية . برغم ان هنالك طرقاً عدة في بناء القصة فأننا سندرس تباعا مداخل لها من خلال الحبكة والبناء ابتداء من الشكل التقليدي الذي استكشف وتم العمل به في ازمنة سحيقة ومنذ الأغريق وبقي موفرا العديد من التحديات والقناعات للكتاب والقراء معا: موفرا لهم بناءا مؤثرا للحبكة .
ويعطيكم العافيه وان شاء الله مستفيدين
ودمتم سالمين................
رنين الصباح