رمقته بنظرات حادة...تناولت حقيبة يدها بانفعالية متعمدة.
....تأملته ثوان ثم رحلت.....ظلت عيناه معلقتان بآخر طيف لها .
..التفت إلى النادل بسرعة و كأنه يريد كسر آخر صورة تكونت في عينيه...فنجان آخر من القهوة.
..بسرعة لو سمحت..
دمعة تلو أخرى ...بدأ التساقط الموجع ليغرق كل ما في الذاكرة...و في لحظات تحول إلى انتحاب...مرير..لفت الأنظار اليه..دون أن يضع ذلك حدا" له...
القهوة سيدي...هل من خدمة أخرى...مد يده يتلمس جيوبه...استطاع التقاط بعض النقود المختبئة الى وقت الحاجة...قدمها الى النادل دون أن يحصيها...و كأنه بالفطرة أدرك أن ما لديه لا بد يكفي لفنجان قهوة..
ابتلع القهوة الساخنة دفعة واحدة...لم يشعر باحتراق حلقه في غمرة الاحتراق الذي يعيشه..
عصفت به أحداث الأمس....وضع يده على صدره..تنهد بصعوبة ...نهض بتكاسل....أرسل نظرة عابرة الى المكان الذي اكتظ بنظرات الفضوليين المندهشين..لم يأبه....خرج من المقهى..تجره قدماه دون وعي أو هدف..
ربما سار ساعة ربما ساعات ..تساقطت أوراق الزمن من اعتباراته...وسقط إحساسه بالمكان...عبر طريقا" أو أكثر...ثمة بوصلة مخفية تتحكم بخطاه....على رصيف متعب...أرخى جسده بالكامل...في حالة استسلام بادية للعيان...تلطخ وجهه ببقايا دموع و دخان سجائر...مد يده الى جيبه..باحثا" عن أنيس...سحب بطانة الجيب البيضاء جدا" ليس من نظافتها بل من فراغها و هزيمتها....نظر الى قامة لامست طرف عينيه.
..لم يدرك تفاصيل الوجه لكنه أدرك ما فهمه الرجل الغريب الذي ترك له قطعة نقود...على حافة الرصيف..التقطها..دون تغير في تعابير وجهه...أخذ يتلاعب بها..قفز فجأة من مكانه...عاد أدراجه..متجها" الى حيث يدرك تماما"..الى مكان تعود لقاءها فيه....وصل البحيرة...المكتظة بالناس...توجه مباشرة..الى السياج المنخفض على أحد حوافها...تأمل قطعة النقود التي أحكمت أصابعه قبضتها عليها...سرح قليلا" مع خليط من الذكريات و الأحاسيس....تلفظ برجاء مبهم...ثم رمى بقطعة النقود الى أبعد مسافة مكنته منها قوته المتهالكة.
....ثم بجملة أخيرة اختتم تأمله.
نعم ...فليذهب حبها الى الجحيم.."
إحساس ما غلب انغماسه في حالته...التفت الى يمينه ليراها..تقف على بعد أمتار منه...تتقاذف بين كفيها عدة نقود...بحالة من اللعب....و الأمل...قذفت بآخر ...قطعة..قبل ان تلتفت اليه...اقتربت...لتقول...دوما" لنا عودة الى الأماني لكنها تبقى أماني....و أوهام..ابتسمت ...و في رمشة عين توارت عن الأنظار...
التفت مرة أخرى الى البحيرة....لم يحاول تفقد جيوبه..كان يدرك النتيجة....تحول الى رجل يقف برفقة صبية على مسافة منه...ممكن قطعة نقود واحدة لو سمحت...أخذها دون بادرة شكر..
أسرع الى مكانه السابق ..أخذ نفسا" قويا"....ثم صرخ بأعلى صوته...فلتتحقق أمنيتها..هذا رجائي الأخير...لم يكمل آخر حروفه حتى زلت قدمه و اختل توازنه..و في أقل من لحظة إدراك ..سقط في ماء البحيرة الذي و لأول مرة في تاريخ زياراته لها حقق له أمنية...