كان يجوب الشوارع كعادته بعربة الخضار التي يقتات من رزقها, الناس يحيطون به من كل مكان , بدأ يتكلم مع ذاك و يبتسم مع الاخر , و يرد التحية على زبنائه الجدد. كان يعمل بجد و مرح و نشاط مبتهجا بحلول اليوم الجديد . سأله رجل من الزبناء عن ثمن البطاطس ؟! فرد عليه بابتسامة 4 دراهم . لكن الابتسامة زالت عن وجهه عندما نظر إلى الشخص الذي سئله , فبدى كأنه رأى شبح الموت , بدى شاحب الوجه , أصفر البشرة , و توقف عن العمل مندهشا . اجل إنه يعرف صاحب هذا الوجه , فملامحه لم تتغير مع مرور الزمن .
بدأت القصة عندما كان لا يزال تلميذا يدرس بمدرسة الامل التي حولت حلمه الى كابوس يتبعه في كل مكان . عندما دخل القسم متأخرا كعادته , فعاتبه الأستاذ أشد عتاب من شتم و ضرب , على قهقهات ضحك التلاميذ , فأجلسه في اخر المقاعد بمفرده , ستتعجبون من تصرف هذا الأستاذ و ربما لن تصدقوا أنه فعل حقا هذا بمجرد تأخير التلميذ , أجل فهو مجرد سبب اتى بين يد الأستاذ لكي يطفئ النار المشتعلة في قلبه من ناحيته بسبب ذكائه المتزايد . فالمعلم لايزال يذكر يوم أتى المفتش فجأة عندما كان يشرح الدرس فأخطأ في تصحيح التمرين المقدم لتلاميذ فصححه له لكن المعلم لم يرضى أن يصحح له تلميذ صغير ما درسه طوال اربع اعوام أمام المفتش , فأصبح يحقد عليه دائما .
كانت تلك المدرسة الوحيدة القريب من قريته الصغيرة , لكن طموحه كانت تنسيه ظلمة الليل و برودة الجو و المسافة البعيدة التي كان يقطعها , تنسيه المشاكل العائلية التي ما تكاد تنتهي حتى تأتي أخرى . المسكن الذي يعيش فيه يكاد يسقط من شدة الرطوبة , الملابس التي يرتديها كانت في السابق لأخيه الأكبر عندما كان في عمره و غدا ستصبح لأخيه الاصغر .
كان الأستاذ قاسيا معه إلى حد كبير , لكن صبره كان أكبر , فبدأ يستيقظ على صوت اذان الفجر ليصلي لله و يتوكل عليه بالذهاب إلى المدرسة راجلا , لكن هذا لم ينجيه من كلام الأستاذ في حقه , يشتمه و يسبه و يسخر منه على الملابس الرثة التي يرتديها , بقوله (انها ملابس ولى زمانها و انها تشبه ملابس جده . و أحيانا يشمئز من رائحته النثة بقوله أنه كلما مر بالقرب من الطاولة يشم رائحتا نثة كأن بها قط ميت ) .
لم يعد التلميذ قادرا على تحمل كل هذا , خاصة انه لا يستطيع إخبار والده الذي يتقاسم معه حلمه بأن يصبح مهندسا , و امه التي ترفض فكرة تعليمه من البداية . فأصبح اليأس يحوم عليه , و أصحاب السوء يحيطون به و يسممون أفكاره بالأفكار السيء لا تخطر حتى على بال الشياطين . مرة بالتعرض للأستاذ بالسكين و ضربه أو إصابته بجروح لعله يخفف من تصرفاته اتجاهه , لكن الجانب الإنساني الذي تربى عليه كان لا يسمح له بفعل هذه المخاطرة .
بدأ اصدقاء السوء الذين تعرف إليهم عندما طرده نفس الأستاذ من الحصة بالسيطرة عليه فبدؤو خطوة خطوة من الجانب الذي يؤلمه , أعطاه بو جمعة سيجارة الاولى فقال وهو يمدح فيها: خد هذه السيجارة التي ستنسيك كل همك و مشاكلك . فرد عليه مسعود ممازحا :إحدر فقط على أن تنسى إسمك . ضحك الجميع فلم يشعر بنفسه إلا وهو يدخنها فبدأ يسعل بشدة لكنه إعتاد عليها فيما بعد .
بدأ بالسيجارة حتى اكملها بالحشيش , و الذي اصبح فيما بعد يبيعه في الأحياء القديمة للناس الذين لديهم مشاكل أمثاله , لا زال يذكر كم مرة أمسكت به الشرطة متلبسا في الازقة , و كم مرة أكل فيها الضرب و تلقى جميع أنواع التعذيب لعله يكف عن بيع الحشيش , لكنه كان معتادا على الضرب و الشتم من طرف الأستاذ الذي علمه قسوة القلب بدل التسامح و التعاون .
قضى سنة كاملة في الأحداث لعله يغير سلوكه , و يرجع إلى صوابه, لكنه إستغل إنشغال الموضفين في فترة الراحة ليهرب و يفر بجلده . فتشاء الأقدار على أن يلتقي بصديق له كان يقطن في نفس الحي ليعظه و يرشده إلى الطريق التي تاه عنها , خاصة عندما أخبره ان ذلك الخبر الذي نزل عليه كالصاعقة عندما اخبره بوفاة والدته التي ماتت من شدة الحسرة عليه, و التي لحق بها والده الذي توفي نتيجة سقوط المنزل الذي كان يسكن فيه , أما إخوته فهم في المسشفى الأكبر في حالة خطرة دخل على إثرها الى الانعاش , و الصغير أصيب بجروح طفيفة .
غير هذا الخبر كل حياته , الشعور بالندم بعد فوات الأوان , الشعور بالاسى على ما أصاب عائلته التي كان هو الامل الوحيد الذي يشغلهم , منذ ذلك الحين اصبح بائع الخضار رفقت صديقه الوفي الذي أخرجه من غيبوبته .
لم يمضي على خروج إخوته سوى أيام معدودة ليبدأ معهم صفحة جديدة , مليءة بالفرح لعله يعوضهم على ما فات و ضاع من عمرهم .
استيقض من ذكرياته البائسة على صوت نفس الشخص الذي طلب منه أن يضع له كيلوا غراما من البطاطس , انه المعلم الذي حول حياته إلى إلى كابوس مرعب دون أن يعلم بأن الشخص الذي يقف أمامه هو ذلك التلميذ المجتهد الذي إنتقم منه أشد إنتقام , و ربما كان هناك العشرات من التلاميذ الذين كانوا من ضحايا هذا الأستاذ.