صوت هدير البحريلف الشاطىء في سكون الليل المظلم، والمكان موحش بل مخيف، وكان رشيد هناك مع صديقه المهدي يتهامسان بصوت خافت، وعلامات الترقب والإنتظار بادية على محياهما.
كل منهما يحمل معه حقيبة مليئة بأحلام وطموحات لاحدود لها، عجزا عن تحقيقها هنا، ويتوقان إلى العبور للضفة الأخرى، إلى إسبانيا ...لتحقيقها هناك...
بلد الفلامينكو...بلد الجميلات...بلد اليورو...
هناك ...حيث تتراءى لهما أضواء بعيدة كنجوم تتلألأ في سماء صافية.
هناك...عليهما فقط قطع مسافة يضعة كيلومترات
هناك...ويعانقان السعادة التي تنتظرهما بشوق...وبالأحضان.
بعد برهة، ظهر شبح رجل سريع الخطى متجه نحوهما، وعندما اقترب، طلب منهما أن يسلماه بقية المبالغ المتفق عليها، وأن يستعدا ليقلهما في قارب مع باقي المهاجرين.
وقبل طلوع الفجر،كانوا مكدسين في قارب صغير، ثلاثون شخصا،منهم شباب ، نساء وحتى الأطفال...
تلوا جميعا سورة الفاتحة والشهادتين ثم توكلوا على الله..وانطلقوا...يشجعون بعضهم على الصبر والإحتمال لساعات فقط حتى يصلوا إلى أرض الأحلام.
ابتعد القارب، ورشيد يرقب الشاطىء بحزن وعيناه مغرورقتان بالدموع، لم يستطع إيقافها، كما أنه خشي أن يلاحظ صاحبه وصديق طفولته بكاءه، ويتبادر إلى ذهنه أنه خائف أو نادم على خوض غمار هذه المغامرة المجهولة المصير،لكن سبب حزنه كان شيئا آخر....
فراق الأهل، أمه وأخته،فهما كل ما تبقى له في هذه الحياة، كانتا تحنان عليه وترأفان به،و...و...و...
لكنه ضاق ذرعا ببقائه عالة عليهما، كان متفوقا في دراسته، تمنى أن يصبح قاضيا، لكن ظروفه المادية لم تكن لتسمح له بمتابعة دراسته الجامعية، فاضطر إلى الخروج للبحث عن عمل، ولسوء حظه وجد كل الأبواب موصدة بآلاف الأقفال...مفاتيحها السحرية الواسطة والمال ...فمن أين له بهما يا ترى؟؟؟
الحل إذن هو الهجرة...لا مناص
الحل هو إسبانيا...لا جدال
اعترضت أمه وأخته على قراره، لكنه كان عنيدا جدا كأبيه، وعبثا حاولتا إقناعه، أراد أن يكون لنفسه مستقبلا زاهراليعوضهما عن سنوات الفقر والعوز وتعيشا عيشة هنيئة كريمة.
فراق الوطن كان أيضا سببافي حزنه، ففيه ولد وترعرع، فيه أصدقاؤه وأحباؤه، ولا ينسى العم إدريس ومحلبته، ملاذه المفضل لتناول السندويتشات،والإستئناس بحكايات ممتعةلهذا العجوز-البحار السابق-عن البحر وأهواله.
نعم....البحر الذي لطالما شكى له همومه وأحزانه، ولطالما حاوره، فكان تلاطم أمواجه وزبده خير مجيب له.
ترى هل سيكون البحر هناك ...في الضفة الأخرى مشايها لبحر بلده؟؟؟
مرت ساعات على إبحارهم، وفجأة استفاق رشيد من تأملاته على صوت امرأة تستنجد وتشير إلى قدميها المبتلتان...
كارثة...فبالقارب ثقب...ازداد اتساعه بسبب الثقل المضاعف للركاب، مع العلم أن الحمولة العادية للقارب لا تتجاوز الإثني عشر راكبا.
حالة مروعة من الرعب والهلع سادت إخواننا المهاجرين، أين المفر، فالبحر في كل اتجاه، والموت أيضا...
تشبث الصديقان ببعضهما بقوة وكأنهما يتشبتان بطوق للنجاة..
لكن وا أسفاه...انقلب القارب، وابتلع البحر الغادر كل الركاب..
وانتهت الرحلة نهاية مأساوية...
رحلة انتهت قبل ان تبدأ...
وعبورا فاشلا أزهقت فيه أرواح بريئة،كان هدفها الوحيد هو العيش بكرامة...
أماالرابح الأوحد فكان صاحب القارب الذي باع أحلاما وردية وهمية لأشخاص ضائعين...يحلمون...
بالعبور إلى الضفة الاخرى.